منذ اندلاع العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة في 7 أكتوبر/تشرين الأول 2023، يتكشف وجه جديد للإبادة الجماعية، ليس فقط عبر القصف والقتل، بل من خلال تجويع أكثر من مليوني إنسان في حصار شامل وممنهج.
تحوّل الغذاء إلى سلاح، والطعام إلى هدف عسكري، في سابقة تصفها الأمم المتحدة بأنها “تجريم للبقاء نفسه”.
التكايا ومراكز توزيع الطعام – التي كانت تُعرف محليًا بأنها “شرايين الرحمة” – أصبحت اليوم خطوط الدفاع الأخيرة في معركة البقاء، قبل أن تُستهدف بدورها بالقصف والدمار، في جرائم موثقة تمثل ذروة القسوة والانتهاك للقانون الدولي الإنساني.
التكايا في غزة... آخر خطوط الحياة تحت النار
في ظل انعدام الوقود وتدمير المخابز وغياب الأسواق، أصبحت التكايا – تلك المطابخ الخيرية التي تطهو العدس والأرز والخضار على الحطب – الملاذ الأخير للفقراء والنازحين.
يصفها الفلسطينيون بأنها “رغيف الصمود”، إذ تقدّم وجبات بسيطة لكنها تحفظ الحياة وسط مجاعة متصاعدة.
ومع ذلك، تحوّلت هذه المبادرات إلى أهداف مباشرة للقصف الإسرائيلي، حيث وثّق المكتب الإعلامي الحكومي في غزة استهداف 68 مركزًا غذائيًا منذ بدء العدوان، منها 29 تكية و39 مركزًا لتوزيع المساعدات.
سياسة التجويع الممنهج – من الحصار إلى القصف
استهداف التكايا ليس عرضيًا، بل سياسة متكاملة الأركان. فمنذ 2 مارس 2025، أُغلقت المعابر تمامًا، ومُنع إدخال الغذاء والوقود، ما أدى إلى توقف 100% من المخابز.
كما أعلن وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش تصريحًا صادمًا:
“لن ندخل حبة قمح واحدة إلى غزة.”
تصريح يكشف نية متعمدة لتجويع السكان، في انتهاك صريح للمادة (54) من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف لعام 1977، التي تحظر استخدام التجويع كسلاح حرب.
شهادات من الجوع والموت
تتوالى المشاهد المروعة التي توثق المأساة:
• أطفال ينهارون في طوابير الطعام من شدة الجوع.
• نساء ينتظرن سبع ساعات للحصول على طبق عدس.
• متطوعون يُقتلون أثناء توزيع وجبات على النازحين.
• وأجساد تحترق فوق القدور في لحظة القصف.
من أبرز الجرائم:
• تكية القلوب الرحيمة – خان يونس: قصف مباشر أودى بحياة 10 مدنيين بينهم أطفال ومتطوعون.
• تكية الأمل – الشجاعية: استهداف بطائرة مسيّرة أثناء توزيع الخبز.
• المطبخ المركزي العالمي (World Central Kitchen): قصف متعمد لثلاث مركبات أدى إلى استشهاد 7 من عمال الإغاثة الدوليين، رغم التنسيق المسبق مع الجيش الإسرائيلي.
هذه الحوادث ليست أخطاء ميدانية، بل تعبير عن استراتيجية “الإبادة البطيئة”.
الانهيار الكامل للمنظومة الإنسانية
وفق تقارير الأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية:
• 60% من أطفال غزة يعانون من سوء تغذية حاد.
• 326 حالة وفاة على الأقل بسبب الجوع والمرض.
• توقف غالبية منظمات الإغاثة عن العمل نتيجة الاستهداف المتكرر.
• 95% من السكان يعتمدون كليًا على المساعدات، ارتفاعًا من 60% قبل الحرب.
في هذا الفراغ القاتل، أصبحت التكايا المبادرة الوحيدة القادرة على الصمود، حتى وهي تُقصف وتُحاصر.
الأبعاد القانونية – التجويع جريمة حرب وإبادة جماعية
يُعد استهداف المطابخ الخيرية ومراكز توزيع الطعام جريمة مزدوجة وفق القانون الدولي:
• المادة 8 من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية: تصنّف “تجويع المدنيين عمدًا” كجريمة حرب.
• المادة 6 من النظام ذاته: تجعلها جريمة إبادة جماعية عندما تُرتكب بقصد إهلاك جماعة سكانيّة بالكامل.
• المادة 54 من البروتوكول الإضافي الأول لاتفاقيات جنيف: تحظر استهداف الموارد الضرورية لبقاء المدنيين.
إن القصف الممنهج للتكايا يرقى إلى سياسة إبادة عبر الجوع، تمارسها إسرائيل بوضوح وتوثّقها الشهادات والمشاهد اليومية في غزة.
وجوه إنسانية في زمن الجوع
أيمن مشتهى – الشاب الذي حوّل الخبز إلى مقاومة.
كان يطهو لأطفال حي الشجاعية حتى لحظة استهداف “تكية الأمل”. ورغم إصابته، أنقذ طفلة من بين الركام قبل أن يستشهد.
دعاء أبو جامع (6 أعوام) – الطفلة التي ذهبت لتملأ طبقها بالطعام، فقُصفت وهي تحمله فارغًا.
عبود، وطارق، وحمزة – ثلاثة متطوعين أُعدموا بصاروخ وهم يطهون وجبات للنازحين في خان يونس.
ناصر موزع الشوربة – استُهدف بينما كان يوزع العدس على الأطفال، فسقط بجانب القدر الذي كان يمد منه الحياة.
هذه القصص ليست استثناءً، بل شواهد على جريمة ممنهجة تستهدف من يطعمون الجوعى، ومن يزرعون الأمل وسط الدمار.
المطبخ المركزي العالمي... حين يصبح العمل الإنساني هدفًا عسكريًا
في 1 أبريل 2024، قصفت طائرات إسرائيلية قافلة إغاثة لـ منظمة World Central Kitchen رغم تنسيقها المسبق.
استُهدفت ثلاث سيارات متتالية، ما أسفر عن استشهاد سبعة من عمال الإغاثة الدوليين، بينهم الأسترالية ليزا فرانككوم، والبولندي داميان سوبول، والبريطاني جيمس هندرسون، والكندي جاكوب فليكنجر.
قال مؤسس المنظمة خوسيه أندريس:
“لم يكن ما حدث خطأً. كان استهدافًا متعمدًا لأشخاص معروفين بوضوح، يقومون بعمل إنساني.”
هذا الهجوم أدى إلى تجميد عمل عشرات المنظمات الدولية، وتراجع وصول المساعدات إلى القطاع، لتغدو المجاعة سلاحًا معلنًا.
بين القانون والصمت الدولي
رغم أن القوانين واضحة، فإن الصمت الدولي حوّل العدالة إلى شريك في الجريمة.
فلا لجان تحقيق فاعلة، ولا عقوبات رادعة، بينما تُواصل إسرائيل استخدام الطعام كسلاح ضغط سياسي وعسكري.
تؤكد منظمات مثل أوكسفام وبرنامج الغذاء العالمي أن ما يجري في غزة هو أسوأ أزمة غذائية في العالم، وأن الأطفال “يموتون قبل أن يتمكنوا من البكاء”.

شاركنا برأيك