لم تعد مدارس غزة رمزًا للتعليم والأمل كما كانت يومًا، بل تحولت إلى ملاجئ بائسة تحاصرها النيران والجوع والأوبئة.
فمنذ السابع من أكتوبر/تشرين الأول 2023، يعيش أكثر من مليوني إنسان نازح في ظروف وصفتها الأمم المتحدة بأنها "غير إنسانية على الإطلاق".
لكن المفارقة المروعة أن المكان الذي لجأ إليه الفلسطينيون بحثًا عن الأمان – المدارس التابعة للأونروا والحكومة الفلسطينية – أصبح هدفًا مباشرًا لآلة القتل الإسرائيلية.
الاحتلال لم يكتفِ بتدمير البيوت فوق رؤوس أصحابها، بل لاحقهم إلى المدارس التي تحولت إلى مراكز موت جماعي.
هذه الجرائم، التي طالت أكثر من 200 مدرسة ومركز إيواء خلال 470 يومًا من العدوان، تمثل انتهاكًا صارخًا للقانون الدولي الإنساني، وترقى إلى جريمة إبادة جماعية مكتملة الأركان.
نزوح جماعي... وجحيم داخل الفصول
وفق تقارير الأونروا والمكتب الإعلامي الحكومي، تسببت الحرب في تشريد نحو مليوني فلسطيني، أي أكثر من 90% من سكان القطاع.
اضطرت آلاف الأسر إلى الإقامة في المدارس التي لم تعد مدارس بل غرف مكتظة بلا ماء أو كهرباء أو مراحيض كافية، في ظروف قاسية دفعت الأطفال إلى النوم على أرضيات إسمنتية تفوح منها رائحة الدخان والعرق والموت.
قال أحد النازحين في مدرسة الشاطئ:
“لم نعد نعرف أين الأمان... كل مكان نذهب إليه يُقصف، حتى المدرسة التي كان من المفترض أن تحمينا.”
هذه المدارس، التي كانت رمزًا للعلم والمعرفة، صارت رمزًا للجوع والمرض واليأس.
قصف الملاذ الأخير – من التعليم إلى الإبادة
تُظهر بيانات الأونروا أن 70% من مدارسها في غزة تعرضت للاستهداف المباشر أو غير المباشر منذ بداية العدوان، وأن 95% من هذه المدارس كانت تستخدم كملاجئ للنازحين.
وقد قُتل 539 شخصًا داخل مرافق الأونروا، وفق بيان رسمي صدر في يوليو 2024، رغم أن الوكالة كانت تزود الجيش الإسرائيلي بإحداثيات المواقع مرتين يوميًا لتفادي القصف.
قال المفوض العام للأونروا فيليب لازاريني:
“المدارس التي كانت أماكن للأمل والتعليم أصبحت أماكن للموت والبؤس. إن تجاهل القانون الإنساني الدولي بهذا الشكل لا يمكن أن يصبح الوضع الطبيعي الجديد.”
مجازر موثقة في مدارس الإيواء
فيما يلي أبرز النماذج الموثقة للمجازر الإسرائيلية في المدارس:
مدرسة السردي – مخيم النصيرات (يونيو 2024)
قصفتها الطائرات الإسرائيلية فجرًا، فأحرقت غرف الطابق العلوي وأدت إلى استشهاد 40 مدنيًا وإصابة 74 آخرين، بينهم 5 أطفال تم انتشالهم أشلاء.
وصف عدنان أبو حسنة، المتحدث باسم الأونروا، الحادث بأنه “جريمة إبادة جديدة ضد النازحين”.
مدرسة أبو عريبان – النصيرات (يوليو 2024)
تعرضت لعدة غارات متتالية أودت بحياة 20 شهيدًا و80 جريحًا، معظمهم من النساء والأطفال.
أكد تحليل لـCNN أن القصف نُفذ بقنبلتين أمريكيتين صغيرتي القطر من طراز GBU-39، صنعتها شركة بوينغ — ما يثبت تورط الدعم العسكري الأمريكي في تنفيذ الجريمة .
مدرسة الجاعوني – النصيرات (سبتمبر 2024)
استُهدفت خمس مرات، وفي القصف الأخير استشهد 19 شخصًا بينهم 6 من موظفي الأونروا كانوا يتناولون طعام الغداء داخل غرفة الإدارة.
قال الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش:
“ما يحدث في غزة غير مقبول. استهداف مدرسة تؤوي 12 ألف نازح جريمة لا يمكن تبريرها.”
مدرستا خديجة وأحمد الكرد – دير البلح (يوليو 2024)
قُصفتا بثلاثة صواريخ مباشرة أثناء تقديم الرعاية الطبية، ما أدى إلى استشهاد أكثر من 30 مدنيًا وإصابة 100 آخرين.
أكدت المفوضية السامية لحقوق الإنسان أن “النمط المتكرر من الغارات على المدارس يثبت الفشل في احترام مبدأي التناسب والتمييز”.
مدرسة رفيدة – دير البلح (أكتوبر 2024)
استشهاد 26 مدنيًا بينهم نساء وأطفال خلال توزيع الطعام، في وقت اختاره الجيش الإسرائيلي عمدًا أثناء ذروة التجمعات.
قال المكتب الإعلامي الحكومي:
“إنها سياسة متعمدة لإيقاع أكبر عدد من الضحايا.”
مدرسة التابعين – مدينة غزة (أغسطس 2024)
من أبشع المجازر، حيث استُهدف مئات النازحين أثناء صلاة الفجر، استشهد أكثر من 100 مدني، بينهم نساء وأطفال وصحفيون.
أكدت الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي أن السلاح المستخدم هو قنبلة GBU-39 أمريكية الصنع، ذات دقة عالية مصممة لاختراق التحصينات، مما يجعل استخدامها في منطقة مكتظة بالمدنيين جريمة حرب واضحة .
من التعليم إلى التجهيل والإبادة الثقافية
يهدف استهداف المدارس إلى أكثر من القتل الجسدي؛ إنه تدمير ممنهج لقطاع التعليم وتجريد المجتمع الفلسطيني من أجياله المتعلمة.
أكثر من 85% من البنية التعليمية دُمرت أو تضررت، بما في ذلك الجامعات والمكتبات والمرافق التربوية، ما وصفه المقررون الأمميون بـ“الإبادة التعليمية”.
بهذا السلوك، تمضي إسرائيل في تنفيذ استراتيجية الإبادة الشاملة: تدمير الجسد الفلسطيني، ومحو العقل الفلسطيني، وإبادة الذاكرة الجماعية.
شهادات من داخل جحيم المدارس
يقول محمد بصل، الناطق باسم الدفاع المدني:
“كنا ننتشل جثث الأطفال من بين دفاترهم، الجدران مليئة بالدماء، والكتب المحترقة تحمل أسماء طلاب كانوا يحلمون بأن يصبحوا أطباء.”
تروي إحدى النازحات في مدرسة المفتي:
“كنا نائمين فاستيقظنا على أهوال يوم القيامة... النار تشتعل في الصفوف، وأصوات الأطفال تملأ المكان.”
بينما وصف طبيب من مستشفى شهداء الأقصى المشهد في مدرسة خديجة قائلاً:
“كنا نعالج الجرحى على الأرض بأيدينا العارية... معظم المصابين أطفال محترقون بصواريخ محرّمة دوليًا.”
التحليل القانوني – جريمة إبادة وجريمة حرب
استهداف المدارس التي تحتمي بها عائلات مدنية يرقى إلى جريمة مزدوجة في القانون الدولي:
1. جريمة حرب وفق نظام روما الأساسي (المادة 8):
o الهجمات المتعمدة على المدنيين أو المرافق الإنسانية والتعليمية.
o استخدام أسلحة ذات أثر واسع في مناطق مأهولة.
2. جريمة إبادة جماعية (المادة 6):
o فرض ظروف معيشية تؤدي إلى الهلاك الجماعي.
o القتل العمد لأفراد من جماعة قومية بهدف تدميرها كليًا أو جزئيًا.
3. انتهاك لاتفاقية جنيف الرابعة (المواد 3 و33):
o حظر القتل والمعاملة القاسية والعقوبات الجماعية.
4. خرق للمادة (50) من اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية (1954):
o تحظر استهداف المؤسسات التعليمية.
توافر القصد الجنائي والعلم المسبق بوجود المدنيين يثبت أن ما يجري ليس أخطاء عملياتية بل إبادة ممنهجة.
موقف الأمم المتحدة والمجتمع الدولي
رغم الإدانات المتكررة من الأمين العام للأمم المتحدة، ومقرري مجلس حقوق الإنسان، والمفوضية السامية، فإن غياب أي إجراءات ملزمة جعل العدالة صامتة.
فيليب لازاريني حذّر:
“العالم يفقد إنسانيته ونحن ندفن موظفينا مع أطفال غزة.”
وصف جوزيب بوريل (الاتحاد الأوروبي) مجزرة مدرسة التابعين بأنها “ضربة قاتلة مروعة تذكّر العالم بفشل القانون الدولي”.
أما المقرّرة الأممية فرانسيسكا ألبانيز فقالت:
“إسرائيل ترتكب إبادة جماعية مدرسة تلو أخرى، بسلاح أمريكي وأوروبي، بينما العالم المتحضّر صامت.”

            
            
شاركنا برأيك